"بالنسبة لصلاح جديد ' أبو أسامة ' ، في الواقع أنا السجين الوحيد ـ ربما ـ الذي رآه وتحدث معه قبل وفاته بثلاث ساعات ونصف فقط ، إذا استثنينا رفاقه في القيادة السابقة الذين كانوا معه في غرفته . وتفصيل الأمر كما يلي :
تم نقلي من سجن تدمر الصحراوي إلى سجن المزة العسكري ( عبر شعبة المخابرات العسكرية التي مضيت فيها 40 يوما ) ظهر يوم السبت 7 آب/ أغسطس 1993 . وبالنظر لأن أمر الشعبة المذكورة كان يقضي بإبقاء سجني انفراديا ، لم يجد مدير السجن العقيد بركات العش سوى غرفة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور يوسف زعيّن ليضعني فيها ، وهي في الطابق الثاني . كانت الغرفة فارغة منذ إطلاق سراح زعين في العام 1981 ، وكان جرى تحويلها إلى مستودع . أما جدار حمامها ومرحاضها فكان مشتركا مع حمام ومراحيض جناح القيادة السابقة ( صلاح جديد ، رئيس الأركا ن الأسبق اللواء أحمد سويداني ، ضافي الجمعاني ، كامل حسين ، عبد الحميد مقداد ، مصطفى رستم ، عادل نعيسة .. إلخ ) .
لم يكن صلاح يخرج إلى التنفس الصباحي أو المسائي مع رفاقه منذ 15 سنة خلت ، احتجاجا على الإهانة التي وجهها له ذات يوم أحد السجانين حين كان في التنفس يستمع إلى راديو ترانزستور في يده ، حيث طلب منه تخفيض صوته بعد أن وصفه بـ ' الحمار ' ! وكنت أغتنم الفرصة للحديث مع ' أبو أسامة ' ـ عبر فتحة صغيرة في الجدار المذكور ـ خلال وجود رفاقه في التنفس . ( طبعا لم يكن ذلك من وراء ظهورهم ، فهم من ساعدني من الطرف الآخر للجدار على إحداث ثقب بالقرب من فتحة يمر منها أنبوب توصيل المياه ، حيث يكون الجدار هشا ، ليؤمنوا الاتصال معي ومعرفة أحوالي من حين إلى آخر . وقد أرسلوا لي الكثير من المساعدات بالنظر لأن لم أكن مُزارا في حينه ) .
مساء 17 آب ، أي بعد وصولي إلى السجن بعشرة أيام ، وعند حوالي السابعة مساء ، كنت أتحدث معه . لم يكن يشكو من أي مرض سوى الضعف البسيط الناجم عن الاعتقال الطويل وسنه المتقدمة ( 67 عاما ) ، وبعض الآلام في الجهاز البولي من حين إلى آخر ، كما فهمت منه ومن عادل نعيسة وضافي الجمعاني و من العقيد بركات لاحقا. وبتعبير آخر : لم يكن يعاني أي مرض يمكن أن يؤدي إلى الموت أو حتى إلى العجز ولو جزئيا .
بعد حوالي ساعة على انتهاء التنفس ، جاء طبيب السجن ، برفقة أطباء آخرين من خارج السجن (؟) ، والعقيد بركات ، وأخذوه . وقد رأيته بأم عيني من نافذة زنزانتي ( الواقعة فوق ديوان السجن مباشرة ، والمطلة مباشرة على البهو الداخلي للسجن المؤدي بدوره إلى بابه الرئيسي الداخلي) يمشي مع الأطباء والمدير بشكل طبيعي . وقد علمت لاحقا من مدير السجن ( الذي أصبحت علاقتي به ممتازة في السنوات اللاحقة ، إذ كان يحرص على تقديم نفسه كتلميذ لالياس مرقص خلال دراسته الثانوية ، وعلى تمييز المعتقلين اليساريين إيجابيا ، وقد سرّح تعسفيا من الجيش صيف العام 2000 بعد اتهامه بتقديم مساعدة وتسهيلات ' غير قانونية ' لي !) بأنه نقل صلاح إلى مشفى المزة العسكري بسيارته المرسيدس الخاصة على خلفية شكواه نفسها ( كريزا في الجهاز البولي ) . وأجزم أنه كان صادقا . فقد كان يحترمه جدا ، ويحرص دائما على مخاطبته بـ ' سيدي اللواء ' .
أنظمة السجون والمخابرات لا تمنح مدير أي سجن عسكري صلاحية نقل أي سجين مريض ، أيّا كان ، سوى إلى المشفى الذي يتبع له السجن ( مشفى المزة العسكري ، 601 ، بالنسبة لسجن المزة ، ومشفى التل العسكري بالنسبة لسجن صيدنايا ) . وفي حال قضى الوضع الصحي للسجين /المريض نقله إلى مشفى تشرين العسكري ( الأكثر تطورا) ، فإن الأمر يحتاج إلى موافقة الجهة المسؤولة عن اعتقال السجين ( مخابرات عسكرية ، مخابرات جوية ، أمن دولة ... ) . وبالنسبة لصلاح ورفاقه تحديدا ، كان نقل أي منهم يقتضي موافقة رئيس شعبة المخابرات العسكرية شخصيا أو مساعده . وفي حالة الطوارىء العاجلة ، كان الأمر يحتاج لاتصال هاتفي فقط . ( في الحالة غير العاجلة يقتضي الأمر توجيه طلب عبر البريد الرسمي للسجن ) .
ما قاله لي العقيد بركات لاحقا هو التالي على نحو شبه حرفي :
' بعد أن أوصلته إلى مشفى المزة بسيارتي ، وليس بسيارة اللاندروفر المرهقة له وغير اللائقة به ، قال الطبيب إنه بحاجة لنقل إلى مشفى تشرين العسكري . فأجريت الاتصالات اللازمة من أجل الموافقة ، وبعد قليل جاءت سيارة من شعبة المخابرات ونقلته إلى تشرين ، فلم يكن من صلاحيتي نقله إلى هناك . وقد توفي بعد وصوله إلى مشفى تشرين بقليل . وكانت حوالي منتصف ليلة 17 / 18 آب ' . وهذا يعني أنه توفي وهو رهن الاعتقال ، بعكس ما نشر في الإعلام لاحقا ، حيث قيل ' إنه توفي بعد صدور أمر بإطلاق سراحه ' . وهذا لا أساس له من الصحة .
هل جرى تسميمه حسب بعض المعلومات المتداولة ؟
ليس ثمة أي دليل على ذلك ، خصوصا وأنه لم يجر أي تشريح للجثة ، ولم يذكر ذووه وجود أي عرَض من أعراض التسمم على جثمانه . ولكن من المؤكد أنه قتل عمدا . والأرجح خنقا بواسطة فصل الأوكسجين عن جهاز التنفس الذي وضع له 'دون مبرر ' كما أخبرني المقدم الطبيب المخبري ' أ. ج . ح ' في مشفى تشرين العسكري قبل يومين من إطلاق سراحي بتاريخ 6 أيار / مايو 2001. وطبقا لأدق المعلومات المتوفرة ، فإن من نفذ الجريمة هم زبانية مصطفى طلاس شخصيا . فمن المعروف أن طلاس كان يكن له كرها وحقدا أعمى . وكان يحرص دوما خلال خطبه وأحاديثه العلنية العامة ( أحدها نشر في الصحف الرسمية) على شتمه والقول عنه حرفيا إنه ' كان يحارب الناس في أرزاقهم وأخلاقهم ' ، في إشارة إلى راديكاليته في عمليات التأميم وملاحقة الفاسدين وطهرانيته ' المتطرفة ' ، وفي وقوفه وراء العديد من كراريس التثقيف السياسي الصادرة عن القيادة القومية والقطرية ، والتي كان ينشر من خلالها مفاهيم المادية التاريخية ، والإلحاد الماركسي ، وبقية أقانيم المعرفة الماركسية وتراثها الفكري والنقابي ، فضلا عن نظريات غيفارا وماوتسي تونغ في حرب العصابات والحرب الشعبية . وقد قرأت بنفسي العديد من هذه الكراريس التي كان يحتفظ بها والدي في مكتبة المنزل .
هل كانوا 'مضطرين ' لقتله ، وفي ذلك الوقت بالضبط ؟
أعتقد نعم . فقد كانت السلطة قد اتخذت عمليا قرارا بإطلاق سراح من تبقى من القيادة السابقة ( كانوا 17 سجينا على ما أذكر ) . ولم يكن بإمكانهم إطلاق سراحه معهم للأسباب التي تعرفها ويمكنك تقديرها ، لاسيما وأن حافظ الأسد لم يكن ليقبل بوجوده حرا طليقا وهو على رأس السلطة ، إلا إذا أعلن ولاءه له ، أو التزم الصمت. وهذا كان مستحيلا ، كما يستشف من المساومات التي حاول النظام فتح بازارها معه. فقد كان لا بد من التخلص منه . وهذا ما حصل . وقد جرى إطلاق سراحهم تباعا بعد بضعة أشهر من وفاته !
هذا بالتفصيل ما أعرفه عن القضية وبمنتهى الأمانة ."